مزابل جدّاتنا خضراء | شعر

MinoruM | Getty

 

مزابل مفقودة

 

كانت مرّةً

مقصد دجاج البلد،

ليأكل.

 

فيها ينبش

منها يلتهم

عليها يلهو ويتعارك.

 

عند مغيب الشمس

يقود كلّ ديكٍ دجاجاته

نحو بيوتٍ

لا ما يضيء دروبها.

 

قصصٌ يرويها كبارنا

ويصعب تصوّرها اليوم،

فلا ديوكَ هنا

سوى في السياسة،

والدجاجات فقط في الثلّاجات.

 

وما الّذي كان في مزابل قرانا؟

حتّى الأكياس نادرةٌ،

يقولون.

 

أذكر جدّتي كيف

ظلّت تجمع

الكيس على الكيس

 في النمليّة

وتعيد استخدامها

بتوفيرٍ وتقتيرٍ

دون مواعظ بيئةٍ ولا تدوير.

 

مزابل جدّاتنا خضراء

فلا طلاءَ أظافرَ فيها

ولا أحمرَ شفاهٍ

ولا أخضرَ

ولا ليلكيَّ

ولا مناديلَ معطّرةً

وبرفانات.

لا مبيداتٍ على الرفوف

 ولا كيماويّاتٍ

ولا زجاجَ يُرْمى

ولا بلاستيكَ وعبوات.

 

أردت القول لـ Green Peace

وفخامة منظّمة الـ Fao

إنّه حين تتراكم بيانات التفجّع

على البيئة

يجدر استعادة مزابل فلسطين،

من نكبة الثماني وأربعين،

بحنينٍ يوازي فقدان فراديسَ

وبقصائدَ أسخى وأسخن دمعًا

من عيون شياطين جاهليّينا

على أطلالهم

وسخونة سرديّات حداثيّينا

على أطلالنا.

 

 

 

عتمات أليفة

خرجتُ مِنْ عتمة البار

للاتّكاء على سيّارةٍ

تحاذي الرصيف

قلتُ، أبدّل عزلةً بعزلةٍ

وفوقَها حبّة مسكٍ

 وهبّة ريح.

 

بمقاييس هذا الزمان،

في الآخِر،

مع احترامي لكارل ماركس ومحبّيه،

هذه صفقةٌ رابحة.

 

المهمّ أن تأخذ في الآخر أكثر،

لا يهمّ ماذا،

حتّى لو خراء.

 

قالوا صباح اليوم في الراديو

إنّ المطر قادمٌ غدًا،

لم أعدّ الوقت

فدخل الغد إلى اليوم

على البار

خلسةً.

 

لائذًا بصفيح سيّارةٍ

استأذنني صاحبٌ منادمتي،

كان لطيفًا

سأل

وتردّد

وتأكدّ

ما إن كنتُ

رهين عزلتي أم

جاهزًا لضيوف؟

فرحّبتُ:

أهلًا وسهلًا

لا يا زلمة

فكّك

تعال

ليلة بلا شروط هاي.

 

وعلى الفور

هلّ الخير،

لم يتأخّر.

 

اعتمرتُ قبّوع المعطف الكحليّ

بقناعة أنّه رذاذٌ خفيف الوطء

وخفيف الدم

وخفيف العمر

لكنّ الصاحب فرّ

داخلًا

كما لو أنّه سيل السيول.

 

لا بأس.

 

عدنا لخيمة الدفء،

قال وقلتُ،

قلتُ وقال،

وغاص في الكلام العابر

وغصتُ،

فما غرقنا،

ولا صاحبَنا أيّ بلل.

 

كَتْكَتْنا غبار الكلام

وتابعنا المسير،

وتشعّبنا

وتفرّعنا

وانتهت كأسي

حين كنّا نستعيد نهاية جوليانو خميس.

 

لحظةٌ فائقةٌ للمغادرة،

بعد دقيقة مشيٍ

عاد الخير،

صدق الراصد الليلة.

اعتمرتُ قبّوع المعطف الكحليّ

ومشيتُ بحثًا عن عزلةٍ جديدة.

 

 

 

لماذا نسجّل هذه الوقائع؟

تخشى مستعمرَكَ

حين تصدأ شبابيك بيوتٍ بناها

وقد اعتلتْها ملامح كهولةٍ

وانبعثتْ منها روائحُ عتيقةٌ

لحنينٍ

إلى

أيّامٍ

مضت

يفوق التخيّل فيها الوقائع.

 

تخشاه

حين تبدأ تتقاطع دروب التذكّر

على لسانيكما

وهي منحدرةٌ في سفح البدايات

نحو أسطورةٍ عتيقةٍ

عن جنّة ماضٍ مفترضة.

ومَنْ يعلم، قد تتحاربان

في هذه الدرب أيضًا

على تحديد حدود الجنّة

وأصل ثمرتها الأمّ:

أبرتقالٌ أم أفوكادو؟

 

(لم يعد أحد يسأل عن التفاح).

 

عندها يكون جذر الاستعمار قد قسا

وسينافسك على طعم الزيت

ورائحة الخزامى،

وعلى حكايات غولة العين

الّتي تسمّيها أنت العين الغربيّة

بينما هو علّق عليها لافتةً

تقول بحروفٍ عبريّةٍ:

"معيان هَمِزْراح".

 

قريتك الدارسة كانت شرقها

لذلك هي غربيّة

فأين السؤال؟

ولكنّك تعرف الجواب المرّ.

فالآن،

بعد تشريفه،

وغياب شمالها في جنوبها

سيسهل إطلاق شتّى العناوين عليها،

بل حتّى سيتسنّى وصمها بـ:

عين السيّد هرتسل اليمنى نفسه.

 

فلماذا تسجّل هذي الوقائع إذًا؟

ربّما للإبقاء على إحداثيّات وطن،

إن لم يكن في ديوان التاريخ،

ففي الصفحات الثقافيّة،

على الأقلّ.

 

 

 

قراءة بديلة

قايين قتل هابيل

مثلما

أباد هوموسابيانس

أخاه النندرتاليّ.

 

كان في الحالتين،

طبعًا،

صراع.

 

خلافٌ طبيعيٌّ،

بالتالي وجوديٌّ،

على الثمر والصيد

وربّما

لاحقًا

على

طول القضيب

وعلى

امتلاء النهد،

في الطَّوْطَم.

 

ثمّ،

بالتأكيد،

على لون الجلد.

 

واصل المنتصر دربه

متمسّكًا بجيناته

وجنيهاته

بمعرفةٍ راسخةٍ

فيها ومنها

تعلي مكانة الأنا

فوق كلّ ما عداها

فنجا وبقي الأقوى،

وبقيتْ

أقوى ملامحنا:

العنصريّة

وهوس الملكيّة.

 

لهذا السبب فقط

ستظلّ مشهرةً

في الوجوه،

مَدَّة اللسان الوقحة

والإصبع الوسطى

ليد تلك اللعينة:

الشيوعيّة.

 

 

 

زمنٌ لا قمريّ

قضى ولدي سنتين

مشغولًا بالقمر.

"أَمَيْ"

 كان يهتف

من ميتا- ألف- بائه

وحنجرةٍ عسلاءَ

مشيرًا بيده الـ بحجم

فراشةٍ

فوق.

 

مِنْ يومها انتبهت

رأيتُ

كم غفلت.

 

مع أنّه هنا،

بعمر الزمن،

بل أكبر،

في متناول الرمش

بكامل بهائه

وهلالاته.

 

عجيبٌ أنّ شيئًا بحجم

قمر،

بل هو نفسه، القمر،

يخفيه بعض طينٍ ورمل

وبلاستيك أباجورَ

وقماش ستائر شبابيك.

 

والأعجب أن تغطّيه

انشغالات البال

وأعباء القلب

ومنغّصات العقل

وسائر ركام

الهموم الثقال،

وتوافه الحال.

 

 كم يشبهنا، البشر،

 القمر،

في ليالي الشتاء

حين يتلفّع صوف الغمام؛

وبعض الربيع الخريف

وعلى حواشيه زيٌّ خفيف.

 

لكن في الصيف

له كلّ الطيف،

بلا تعرّقٍ

ولا تذمّرٍ

ولا مكيّفٍ

ولا سكّرٍ مثلّجٍ،

في الصيف القمر ملك الحارة،

عاقدًا يديه خلف رأسه

يفترش غبار الكون

يدندن نجومًا

ويتسفّع على شواطئ السديم.

 


 

هشام نفّاع

 

 

كاتب وصحافيّ ومترجم. درس العلوم السياسيّة والفلسفة في «جامعة حيفا». يعمل محرّرًا في صحيفة «الاتّحاد». يكتب المقالة السياسيّة. مهتمّ أيضًا بالتناول الصحافيّ لمسائل واقعة في مركز التقاء الثقافيّ والسياسيّ والاقتصاديّ. أدبيًّا، يكتب القصّة القصيرة والرواية والشعر، وقد صدرت له رواية «انهيارات رقيقة» (2012)، و«لوزها المرّ» (2018).